فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

سورة الضحى:
{والضحى (1)}
وقرأ الجمهور {ما ودعك} بتشديد الدال؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة: بخفها، أي ما تركك.
واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك، وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سمع ودع ووذر.
قال أبو الأسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي ** غاله في الحب حتى ودعه

وقال آخر:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر ** فرائس أطراف المثقفة السمر

والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك.
{وما قلى}: ما أبغضك، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى، وطيئ تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في {قلى}، وفي {فآوى} وفي {فهدى}، وفي {فأغنى}، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس وغيره: أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، حتى شق ذلك عليه، فقالت أم جميل، امرأة أبي لهب: يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت.
وقال زيد بن أسلم: إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته.
{وللآخرة خير لك من الأولى}: يريد الدارين، قاله ابن إسحاق وغيره.
ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها، وعده تعالى بالنصر والظفر، قاله ابن عطية اهتمالاً.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل قوله: {وللآخرة خير لك من الأولى} بما قبله؟
قلت: لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، ولا نعمة أجل منه، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته.
{ولسوف يعطيك ربك فترضى}، قال الجمهور: ذلك في الآخرة.
وقال ابن عباس: رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وقال أيضاً: رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم.
وقيل: في الدنيا بفتح مكة وغيره، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر، ولما ادخر له من الثواب.
واللام في {وللآخرة} لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، وكذا في {ولسوف} على إضمار مبتدأ، أي ولأنت سوف يعطيك.
ولما وعده هذا الموعود الجليل، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته.
{ألم يجدك}: يعلمك، {يتيماً}: توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته.
وقيل لجعفر الصادق: لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه؟ فقال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق.
قال الزمخشري: ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة، وأن المعنى: ألم يجدك واحدًا في قريش عديم النظير فآواك، انتهى.
وقرأ الجمهور: {فآوى} رباعياً؛ وأبو الأشهب العقيلي: فآوى ثلاثياً، بمعنى رحم.
تقول: أويت لفلان: أي رحمته، ومنه قول الشاعر:
أراني ولا كفران لله أنه ** لنفسي قد طالبت غير منيل

{ووجدك ضالا}: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك.
قال ابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب.
وقيل: ضلاله من حليمة مرضعته.
وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور: {ووجدك}، أي وجد رهطك، {ضالا}، فهداه بك.
ثم أقول: على حذف مضاف، نحو: {وسئل القرية} وقرأ الجمهور: {عائلا}: أي فقيراً.
قال جرير:
الله نزل في الكتاب فريضة ** لابن السبيل وللفقير العائل

كرر لاختلاف اللفظ.
وقرأ اليماني: {عيّلاً}، كسيّدٍ، بتشديد الياء المكسورة، ومنه قول أجيحة بن الحلاج:
وما يدري الفقير متى غناه ** وما يدري الغني متى يعيل

عال: افتقر، وأعال: كثر عياله.
قال مقاتل: {فأغنى} رضاك بما أعطاك من الرزق.
وقيل: أغناك بالقناعة والصبر.
وقيل: بالكفاف.
ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها.
{فلا تقهر}، قال مجاهد: لا تحتقره.
وقال ابن سلام: لا تستزله.
وقال سفيان: لا تظلمه بتضييع ماله.
وقال الفراء: لا تمنعه حقه، والقهر هو التسليط بما يؤذي.
وقرأ الجمهور: {تقهر} بالقاف؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي: بالكاف بدل القاف، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور.
{وأما السائل}: ظاهره المستعطي، {فلا تنهر}: أي تزجره، لكن أعطه أو رده رداً جميلاً.
وقال قتادة: لا تغلظ عليه، وهذه في مقابلة {ووجدك عائلا فأغنى}؛ فالسائل، كما.
قلنا: المستعطي، وقاله الفراء وجماعة.
وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما: السائل هنا: السائل عن العلم والدين، لا سائل المال، فيكون بإزاء {ووجدك ضالا فهدى}.
{وأما بنعمة ربك فحدث}، قال مجاهد والكلبي: معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به.
وقال محمد بن إسحاق: هي النبوة.
وقال آخرون: هي عموم في جميع النعم.
وقال الزمخشري: التحديث بالنعم: شكرها وإشاعتها، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك، انتهى.
ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة، أمره بثلاثة: فذكر اليتيم أولاً وهي البداية، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف، فهما مقصدان في الخطاب. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{والضحى (1)}
التفسير:
الأكثرون على أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر سلطانها.
وقيل: هو النهار كله لإقرانه بالليل في القسم وهو ضعيف، لأن معنى {سجى} سكن واستقر ظلامه، أو سكون الناس فيه فيكون الإسناد مجازياً. يقال: سجا البحر إذا سكنت أمواجه، وطرف ساج أي ساكن فاتر. ولا ريب أن سجوّ الليل وقت استيلاء الظلام منه لا كله فهو بمنزلة الضحى من النهار. وههنا لطائف:
الأولى: قدم ذكر {الليل} في السورة المتقدمة وعكس هاهنا لانفراد كل منهما بفضيلة مخصوصة، فالليل للراحة والنهار لانتظام أمر المعاش فقدّم هذا على ذلك تارة وبالعكس أخرى لئلا يخلو شيء من النوعين عن فضيلة التقديم. وأيضاً تلك سورة أبي بكر وقد سبقه كفر يشبه الليل في الظلمة، وهذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يسبقه كفر طرفة عين ولا أقل من ذلك، فبدأ النهار الذي هو يشابه الإيمان. فإن ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وإن ذكرت الضحى أولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثم نزلت وجدت بعده الليل وهو أبو بكر من غير واسطة بينهما كما وقع في نفس الأمر، وكما ثبت من قصة الغار.
الثانية: ما الحكمة في تخصيص القسم في أول هذه السورة بـ: {الضحى والليل}؟
والجواب لأن ساعات النهار كلما تنقص فإن ساعات الليل تزداد وبالعكس، فلا تلك الزيادة للهوى ولا ذاك النقصان للقلى بلى للحكمة، فكذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس لا عن الهوى ولا عن القلى. وأما السبب في الإقسام نفسه فلأن الكفار لما ادّعوا أن ربه ودعه وقلاه وقد ثبت أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال لهم: هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه.
وفيه أن الليل والنهار لا يسلمان من الزيادة والنقصان فيكف تطمع أن تسلم عن الخلق؟
وفيه أن الليل زمان الاستيحاش والنهار وقت الاجتماع والمعاش فكأنه قال: استبشر فإن بعد الاستيحاش بسبب انقطاع الوحي يظهر ضحى نزول الوحي.
وفيه أن الضحى لما كان وقت موعد موسى لمعارضة السحرة كما قال: {موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} [طه: 59] شرفه الله بأن أقسم به فعلم منه أن فضيلة الإنسان لا تضيع ثمرتها.
وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك حتى يسلموا.
وفيه أن الضحى وهو ساعة من النهار يوازي جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته يوازي جميع الأنبياء وأممهم. وفيه أن النهار وقت السرور والاجتماع والليل وقت الغموم والوحشة، ففي الاقتصار على ذكر الضحى إشارة إلى أن غموم الدنيا أدوم من سرورها.
يروى أن الله تعالى حين خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة. ثم انكشف فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الهموم دائمة والأفراح نادرة.
وفي تقديم {الضحى} على {الليل} إشارة إلى أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحصل كمالاته الممكنة له. وأيضاً إنه ذكر {الضحى} حتى لا يحصل اليأس من روحه، ثم عقبه بـ: {الليل} حتى لا يحصل الأمن من مكره.
الثالثة: لا استبعاد فيم يذكره الواعظ من تشبيه وجه محمد صلى الله عليه وسلم بالضحى وشعره بالليل. ومنهم من قال: {الضحى} ذكور أهل بيته، و{الليل} إناثهم. أو {الضحى} رسالته، و{الليل} زمان احتباس الوحي كما مرّ.
ويحتمل أن يقال: {الضحى} نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب و{الليل} عفوه الذي به يستر جميع العيوب. أو {الضحى} إقبال الإسلام بعد أن كان غريباً، و{الليل} إشارة إلى أنه سيعود غريباً. أو {الضحى} كمال العقل، و{الليل} وقت السكون في القبر. أو أراد أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً.
قال المفسرون: أبطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوماً عن ابن جريج، أو خمسة عشر عن الكلبي، أو خمسة وعشرين يوماً عن ابن عباس، أو أربعين عن السدّي ومقاتل. والسبب فيه أن اليهود سألوه عن ثلاث مسائل كما مرّ في (الكهف) فقال؛ سأخبركم غداً ولم يقل (إن شاء الله) أو لأنّ جرواً للحسن والحسين كان في بيته أو لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار، فزعم المشركون أن ربه ودعه وقلاه.
وروي أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة. والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك. والقلى البغض وحذف المفعول من (قلاك) و(آواك) و(هداك) و(أغناك) للفاصلة مع دلالة قرينة الحال أو المقال. والذي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شكا إلى خديجة «إن ربي ودعني وقلاني».
إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجة ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت: والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك. ثم زاده تشريفاً بقوله: {وللآخرة خير لك من الأولى} يعني هذا التشريف وهو إعلام أن ما ألقاه الحساد فيما بينهم من التوديع والقلى بهت محض وإن كان تشريفاً عظيماً إلا أن الذي أعدّ لأجلك في الآخرة أشرف وأسنى. وعلى تقدير انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون ذلك للعزل عن النبوة فإنه غير جائز لكنه يدل على قرب الوفاة المستتبعة للقرب من الله فلا يكون كما ظنه الأعداء. ويحتمل أن يراد: وللأحوال الآتية خير لك من الماضية فيكون وعداً بإتمام نوره وإعلاء أمره. وفي تخصيص الخطاب إشارة إلى أن في أمته من كانت الآخرة شر إليه إلا أن الله ستره عليهم ونظر قول موسى {إن معي ربي سهيدين} [الصافات: 99] لأنه كان في قومه من لم يكن لائقاً بهذا المنصب، وحين لم يكن في الغار إلا نبي أو صدّيق قال نبينا صلى الله عليه وسلم {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40].
يروى أن موسى خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك فقال: إن في قومك نماماً فقال موسى: من هو؟ فقال الله تعالى: إني أبغضه فكيف أعمل عمله؟ فما مضت مدة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في الموضع الفلاني فذهب موسى إلى ذلك الموضع فإذا فيه سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه.
وههنا لطيفة وهي أنه تعالى ردّ ألوفاً من المطيعين لمذنب واحد هاهنا يرحم ألوفاً من المذنبين لمطيع واحد ودليله قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} فلعله حين بين أن الآخرة خير له عقبه ببيان تلك الخيرية وهي رتبة الشفاعة. يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار».
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه رضا جدّي صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل النار موّحد.
وقال ابن عباس: هو ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها، واللام في و{لسوف} خالصة للتأكيد دون الحال كأنه قيل: الموعود كائن لا محالة وإن تأخر زمانه بحسب المصلحة.
وقال جار الله: تقديره ولأنت سوف يعطيك لأن اللام لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد وفيه نظر. ثم عدد بعض نهمه التي أنعم بها عليه قبل إرساله وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك.
قال أهل الأخبار: إن عبد الله بن المطلب توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به، ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة، فهلكت وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم هلك جده بعد سنتين فكفل أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ابتعثه الله للرسالة فقام بنصرته مدة مديدة، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك قوله (فآواك) أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب. وفي تفسير تأويل الضلال قولان: الأول أنه الضلال عن الدين. فقال السدي والكلبي: كان على دين قومه أربعين سنة. الثاني وعليه الجمهور أنه ما كفر بالله طرفة عين والمراد عن معالم الشريعة الحنيفية كقوله: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة فأتى أبو جهل على ناقة محمد صلى الله عليه وسلم بين يديه وهو يقول: لا تدري ماذا نرى من ابنك. فقال عبد المطلب: ولم. قال: لأني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة فكانت الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يكون خلف المقتدي؟ قال ابن عباس: ردّه الله إلى جده بيد عدوّه كما فعل بموسى حين رباه بيد عدوّه.
وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب حتى دخلت هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتاً إنما هلاكنا بيد هذا الصبي.
وروي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهادني الله». يعني حديث أبي جهل المذكور.
وقيل: {ضالا} أي مغموراً بين الكفار من ضل الماء في اللبن.
وقيل: مجاز في الإسناد والمعنى وجد قومك ضلالاً فهداهم بك.
وقيل: كنت منفرداً عن اختلاط أهل الضلال فهداك إلى الاختلاط بهم وإلى دعوتهم. قيل: وعن الهجرة أو القبلة أو عن معرفة جبرائيل أول مرة، أو عن أمور الدنيا أو عن طريق السموات فهداك ليلة المعراج.
وقيل: الضلال المحبة لفي ضلالك القديم فهداك إلى وجه الوصول إلى المحبوب والمراد بالسلوك.
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو حفظت لي غنمتي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان. فلما أتيت أول دار من دور مكة سمعت الدفوف والمزامير فقالوا: فلان تزوّج بفلانة. فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس. ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك. فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس. ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته».
والعائل في الأصل كثير العيال ثم طلق على الفقير وإن لم يكن له عيال لأن الفقر من لوازم العول. أغناه الله بتربية أبي طالب أوّلاً، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة. يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له: ما لك؟ فقال: الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحيي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله. فدعت قريشاً وفيهم الصدّيق.
قال الصدّيق: فأخرجت دنانير حتى وصبتها أبلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه. وأما في زمان الرسالة فأغناه لمال أبي بكر ثم أمره بالهجرة وأعانه بإعانة الأنصار حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين. ثم أغناه بما أفاء عليه من الغنائم.
قال صلى الله عليه وسلم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وبعض هذه الأمور وإن كان بعد نزول السورة إلا أن معلوم الله كالواقع فيكون من قبيل الإخبار بالغيب وقد وقع فيكون معجزاً.
وقيل: الغنى هو القناعة وغنى القلب كان صلى الله عليه وسلم يستوي عنده الحجر والذهب.
قال أهل التحقيق: الحكمة في يتم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم. وأن يكرم اليتيم المشارك له في الاسم كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه وسعوا له في المجلس» وفيه أنه لا يعتمد من أول عمره إلى آخره على أحد سوى الله فيحصل له فضيلة التوكل كما قال جده إبراهيم (حسبي من سؤالي علمه بحالي).
وفيه أن اليتيم منقصة ومذلة فإذا صار أكرم الخلق كان من جنس المعجزات. يروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سألت ربي مسألة لوددت أني لم أسألها قلت: اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، وسخرت مع داود الجبال، واعطيبت سليمان كذا وكذا. يقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك، ألم أجدك ضالا فهديتك، ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى. قال: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] إلى آخره؟ قلت: بلى».
أقول: إن صح إسناد هذا الحديث وجب حمله على الشكاية مع الله أن إلى الله لا من الله، فإن الأول قد يتفق للعارفين في مقام الانبساط والقبض دون الثاني. وحين أذكره الله تعالى نعمه حتى لا ينسى نفسه أوصاه بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة الله معه فقال: {فأما اليتيم فلا تقهر} أي فلا تغلبه على ماله وحقه لضعف حاله.
وانتصب اليتيم بالفعل بعده. والفاء لتلازم ما بعدها لما قبلها. وقرئ: {فلا تكهر} أي فلا تعبس في وجهه. يروى أنها نزلت حين صاح النبي صلى الله عليه وسلم على ولد خديجة. وإذا كان هذا العتاب لمجرد الصياح أو العبوس فكيف إذا آذاه أو أكل ماله.
عن أنس مرفوعاً «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن فيقول الله تعالى: من أبكى هذا اليتيم الذي واريتُ والده في التراب؟ من أسكته فله الجنة».
ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من تمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال: يرحم الله عبداً يرحمنا. فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلى الله عليه وسلم فخرج واشتراه من السائل، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: أسائل أنت أم بائع»؟ فنزل {وأما السائل فلا تنهر} أي فلا تزجر.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رددت السائل فلم يرجع فلا عليك أن تزجره».
قال العلماء: أما إنه ليس بالسائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره. ثم أمره بأن يحدث الناس بما أنعم به عليه من الإيواء والهداية والإغناء وغيره. واعلم أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد، نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله: {ألم يجدك يتيماً فآوى} ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله: {ووجدك عائلا فأغنى} وأمره بتحديث نعمه ربه وهو في مقابلة قوله: {ووجدك ضالا فهدى} فالأنسب أن يكون المراد به التبليغ وأداء الرسالة وتكميل الناقصين بالدعاء إلى الدين كما قال مجاهد.
ولقد روعي في الترتيب نكتة لطيفة فقدّم في معرض المنة النعمة الدينية وهي الهداية على النعمة الدنيوية وهي الإغناء وإما في معرض الإرشاد فقدّم الإشفاق على الخلق، وأخر التحديث ليكون أدخل في الاستمالة وأجلب للدواعي فإنه ما لم ينتظم أمر المعاش لم تفرغ الخواطر لقبول التكاليف والتزام أمر المعاد.
قال المحققون: التحديث بنعم الله تعالى جائز مطلقاً بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي غيره به أو أن يشيع شكر ربه بلسانه، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب فالستر أفضل.
قالوا: إنما أخر التحديث تقديماً لحظ الخلق على حظ نفسه لأنه غني وهم المحتاجون ولهذا رضي نفسه بالقول فقط، ولأن الاستغراق في بحر الشكر ومعرفة المنعم غاية الغايات ونهاية الطاعات.
تنبيه:
روي عن البزي أنه قال: قرأت على عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت {والضحى} قال: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على عبد الله بن عباس تسع عشرة ختمة فأمره بذلك في كلها، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك.
وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة {والضحى} إلى آخر القرآن. وهكذا روي عن قنبل. والسبب فيه أنه حين انقطع الوحي على ما سبق ذكره وأنزل السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر» تصديقاً لما أتى به وتكذيباً للكفار.
قال العلماء: لا نقول إنه لابد لمن ختم أن يفعله ولكنه من فعل فقد أحسن ومن ترك فلا حرج. واختلفوا في لفظ التكبير وكان بعضهم بقول: الله أكبر لا غير. وآخرون يقولون: لا إله إلا الله والله أكبر فيهللون قبل التكبير.
وأما كيفية الأداء فاعلم أن القارئ إذا وصل التكبير بآخر السورة فإن كان آخرها ساكناً كسره لالتقاء الساكنين فإن همزة الوصل من أول اسم الله تسقط في الدرج وذلك ثلاثة مواضع {فحدث} الله أكبر {فأرغب} [الشرح: 8] الله أكبر {واقترب} [العلق: 19] الله أكبر. وإن كان منوناً كسره أيضاً سواء كان المنون مفتوحاً أو لا وهو {تواباً} [النصر: 3] الله أكبر أو مضموماً وهو ثلاثة {لخبير} [العاديات: 11] الله أكبر {حامية} [القارعة: 11] الله أكبر وأحد الله أكبر ومكسوراً وهو أربعة {ممدة} [الهمزة: 9] الله أكبر و{مأكول} [الفيل: 5] الله أكبر و{خوف} [قريش: 4] الله أكبر و{مسد} [المسد: 5] الله أكبر. وإن كان آخر السورة متحركاً غير منون تبقى الحركة بحالها فالمفتوح ثلاثة {الحاكمين} [التين: 8] الله أكبر و{الماعون} [الماعون: 7] الله أكبر و{حسد} [الفلق: 5] الله أكبر والمضموم ثلاثة {ربه} [البينة: 8] الله أكبر و{يره} [الزلزلة: 8] الله أكبر و{الأبتر} [الكوثر: 3] الله أكبر والمكسور خمسة {مطلع الفجر} [الفجر: 5] الله أكبر و{عن النعيم} [التكاثر: 8] الله أكبر و{بالصبر} [العصر: 3] الله أكبر {ولي دين} [الكافرون: 6] الله أكبر {والناس} [الناس: 6] الله أكبر والله أعلم. اهـ.